صراع الديناصورات!
أبدأ رسالتي إليك بهذا الدعاء الذي يتردد دائما في أعماقي: اهدنا الصراط المستقيم, صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين صدق الله العظيم.. فأنا شاب عمري23 عاما ولي شقيق وحيد عمره17 عاما.. ولقد نشأنا بين أبي وأمي في أسرة تظللها التقاليد الأصيلة ويرفرف عليها الحب الذي بدأت به حياة الأبوين وارتباطهما, وترسخ في أعماقنا حين أدركنا أنه وحده كان سبب وجودنا, حيث جمع الحب بين أبوينا وتحديا به الجميع والظروف المحيطة ونجحا في ذلك.
ولقد كنا نقيم في شقة صغيرة من حجرتين وصالة بمدينة نصر.. ونخرج يوم الاجازة مع أبوينا اللذين يعمل كل منهما بوظيفة ملائمة ويتقاسمان أعباء الحياة.. ولم نكن نشعر بأننا محرومان من أي شيء, ولا ننظر إلي غيرنا من الأبناء ولا يعنينا ماذا يملكون أو ينفقون, ثم تقدمنا في مراحل التعليم وارتقت أحوالنا المادية والاجتماعية كثيرا وانتقلنا إلي شقة أكبر وأوسع بمدينة نصر كذلك.. واحتفظ أبي بالشقة القديمة الصغيرة لتكون لي ولأخي في المستقبل, وأصبح أبي مديرا في عمله, وأمي مديرة في عملها, وأصبح كل منهما يمتلك سيارة خاصة يذهب بها إلي عمله.. وبعد فترة قصيرة.. بدأت حياتنا تشهد بعض المتغيرات الجديدة عليها وبدأت المشاكل العادية التي قد تحدث في أي أسرة تتكرر بمعدلات أسرع في حياتنا وتتجمع ضغوطها تحت السطح ونحن لانشعر بها, وضاعفت منها ضغوط العمل ومشاكله.. فأدي كل ذلك إلي تضخيم آخر مشكلة زوجية شهدها بيتنا بين أبي وأمي ووسوس الشيطان لأحد الطرفين وهو في غضبه أن يتخلص من كل مايربطه بحياته السابقة بدعوي أن العمر قصير, وقد لايستطيع أن يفعل مايريد أن يفعله الآن في المستقبل, فيرد عليه الطرف الآخر بالجرم والإهانة والتهديد بأن يفعل هو أيضا نفس الشيء في أقرب وقت.
وتصاعد الموقف بأسرع من قدرتنا علي الاستيعاب.. ناهيك عن الإصلاح أو التدخل لوقف التدهور, وطلق أبي أمي ولم يكتف بذلك وإنما تزوج أيضا بأخري ردا علي اهانة أمي له ببعض العبارات المستفزة, وباع الشقة القديمة التي كان يحتفظ بها لنا ليشتري شقة أخري يتزوج فيها. ولم تقف أمي مكتوفة الأيدي أمام هذه الإهانة الاجتماعية التي وجهها لها أبي بزواجه فتزوجت هي الأخري خلال فترة قصيرة, وطلبت منا مغادرة الشقة التي نقيم فيها معها لكي يأتي زوجها ليعيش معها وغيرت كوالين الشقة وسدت أبوابها في وجهينا أنا وأخي كما لو كنا خدما انتهت مدة خدمتهم في هذا البيت وآن لهم أن يبحثوا عن غيره. وعجبنا لما حدث.. وتساءلنا عن السبب فجاءنا الجواب أن الهدف هو أن نجد نفسينا بلا مأوي فنذهب لأبينا ونحصل منه علي حقنا لديه بأي وسيلة فإن لم نستطع ذلك فلن نغص, إذن عليه حياته الجديدة.. ولو باشعاره بأننا قد أصبحنا مشردين بعد أن كنا نحيا حياة آمنة وننعم بحماية الأبوين ورعايتهما.. ولا عجب في ذلك وكل منهما يريد أن ينتقم من الآخر.. بغير أن يضع في حسبانه أنني في سنة البكالوريوس وأن أخي بمدرسة خاصة ذات مصروفات عالية.
ولأن الهدف هو الانتقام فقد راح كل منهما يشن علي الآخر حرب الدعاوي القضائية ويجيء بمحامين كبار من أساتذة الجامعات وينفق علي قضاياه من المال ما نتحسر أنا وشقيقي حين نتذكره ونحن نبيت في تجديدات مسجد قريب من منزلنا السابق كنت أصلي فيه بانتظام خلال شهر رمضان الماضي, فاذا به يصبح مأواي أنا وشقيقي إلي أن يقضي الله في أمرنا.. وإنني أتساءل ياسيدي هل تتغير النفوس من الحب إلي الكراهية العمياء والرغبة العارمة في الانتقام من الطرف الآخر علي هذا النحو؟.. وهل تشمل هذه التغيرات في المشاعر.. مشاعر الآباء والأمهات تجاه الأبناء فتتحول من الحب والعطف والاهتمام والعطاء.. إلي اللامبالاةة والجحود, وعدم الاهتمام؟!
وهل توجد العاطفة في الإنسان تجاه أبنائه كما توجد في الحيوانات غير العاقلة تجاه أبنائها؟.. وهل نحن المخطئان فيما حدث بين أبي وأمي.. دعني أقل إن لنا نصيبا من ذلك لكن هل يكفي هذا النصيب لتفسير مايحدث الآن.. وهل تستطيع أنت أن تفسر لنا مايفعله بنا أبي وأمي كل منهما من ناحيته خاصة رفض كل منهما أن يضمنا إليه أو أن يوجد لنا مأوي كريما؟
ولكاتب هذه الرسالة أقول::
نعم.. أستطيع للأسف أن أفسر لك بعض ماتتعرض له الآن أنت وشقيقك من أذي في هذا الصراع الدائر بين أبويك علي كل الجبهات.. أما إنني أستطيع ذلك للأسف فلأن ماسوف أقوله لك هو أسوأ التفسيرات وأبشعها وأبعدها عن الرحمة والعدل والدين وبر الأبوين بأبنائهما.. ذلك أنني لا أجد مدخلا لفهم كيف يصبح فجأة شابان كانا حتي وقت قريب قرة أعين أبويهما بلا مأوي مستقر ولا مهجع يرجعان إليه سوي تجديدات مسجد كان أحدهما يصلي فيه في رمضان, سوي أن أبويك وقد انفلت عقال رغبة كل منهما في الانتقام من الآخر وإيلامه وتنغيص الحياة الجديدة عليه, قد رغب في أن يصدر مشكلة أبنائه إلي الطرف الآخر, منتظرا منه أن يضحي دونه بتحمل تبعاتها لكي تصفو له هو حياته, ومؤملا في نفس الوقت أن يسهم وجود الأبناء مع الآخر في تقليل فرص نجاحه في حياته الجديدة واستمرارها وحين أثبتت والدتك أنها ليست أضعف من أبيك فيما يتعلق بمشاعرها الأمومية تجاه أبنائها ولا أقل منه رغبة في التخلص من مسئوليتهما وعدم التوقف أمامها وهي تشق طريقها الجديد في الحياة. فلقد أصبحت رغبة كل طرف منهما الآن ليست هي أن يصدر مشكلة أبنائه إلي الطرف الآخر, وانما أن يزعجه بها وينغص عليه صفو حياته الجديدة, فإن لم ينجح في ذلك فلعله علي الأقل يستطيع أن يثقل ضميره بأمرها وأن يخصم من صفاء حياته الجديدة بقدر مايشعره بالذنب تجاه هؤلاء الأبناء, فإن لم يتحقق له شيء من ذلك فلعله يستطيع ـ المطلوب في كل الأحوال ـ أن ينقص من اعتباره لدي الآخرين ويظهره بمظهر من لايعنيه مصير أبنائه في غمار طلبه لسعادته الشخصية واهتمامه بحياته الخاصة.. ولأن الهدف هو الانتقام وليس البحث عن حل عادل للمشكلة, فلقد أغلق كل من أبويك بابه في وجهيكما ولم يحتمل حتي فكرة التنازل عن بعض أسباب راحته وسعادته في حياته الجديدة, بقبول إقامتكما لديه ولو بالتبادل مع شريكه السابق, فكأنما يراهن بذلك علي قدرة الطرف الآخر علي احتمال تشرد أبنائه.. وينتظر الوقت الذي يضعف فيه قبل الآخر ويضم ابنيه إليه ولو أدي ذلك إلي تعثر حياته الجديدة.. فيتحقق المطلوب وينتصر الطرف الأكثر أنانية.. ويفوز في صراع الديناصورات التي لايكف أحدها عن الآخر حتي يلفظ أنفاسه الأخيرة.. وهكذا فلقد اتفقت إرادة الطرفين أو أنانيتهما علي الأصح علي ألا يفعل كل منهما شيئا جادا لحل مشكلة المأوي الملائم لكما.. مكتفيا فيما يبدو بمدكما ببعض نفاقتكما كأنما يرغب بذلك في أن تظل قضية الأبنين المشردين حية في ضمير الطرف الآخر تذكره بالثمن الباهظ الذي دفعاه ثمنا لاختياره الذاتي لسعادته بعيدا عنهما.. وحية أيضا في مجتمعه العائلي تذكر أفراده بمدي ذاتيته وعدم استعداده للتضحية ببعض اعتباراته الشخصية من أجل أبنته, تماما كما تفعل بعض الدول حين ترفض بإصرار منح جنسيتها لمن يلجأون إليها في هجرة جماعية اضطرارية من الدول المجاورة في ظروف الحروب أو المجاعات, لكي تظل مشكلتهم حية تؤرق الضمير العالمي وتدفعه للبحث عن حلول جذرية تعيدهم إلي بلادهم الأصلية. غير أن مايمكن القبول به في السياسة في بعض الأحيان, لايمكن أبدا القبول به في العلاقات الإنسانية وعلي الأخص في علاقة الأبوين بأبنائهما ولقد نسي أبواك للأسف في غمرة هذا الصراع الدامي بينهما أنه إنما ينتقم من الآخر في أبنائه هو وليس في أبناء الطرف الآخر وحده, وان رغبته في ازعاج الطرف الآخر بمشكلة الأبنين أو اثبات تخليه عنهما طلبا لراحته لايدفع ثمنها في النهاية سوي هذين الأبنين.. وما أبشعها ساحة للصراع والانتقام.. وما أخس الفوز فيها والانتصار.. وكفي بالمرء اثما أن يضيع من يقوت كما يقول لنا مضمون الحديث الشريف, غير أنني مازلت بالرغم من كل ذلك أعجب لهذا الانهيار المفاجيء في حياتك أنت وشقيقك حتي لتصبحا معه فجأة بلا مأوي.. ولا أمل في مستقر قريب.. وأتساءل: وأين أعمامك وأخوالك وأهلك الأقربون؟.. وأين سعيهم مع الطرفين لكي يضع كل منهما مصيركما المجهول في اعتباره وهو يشن حرب القضايا علي شريكه السابق ويدفع الأتعاب الباهظة للمحامين الكبار؟.. ولماذا لم يفكر أحدهما في تدبير مأوي لكما ولو في شقة مفروشة ببعض هذا المال الذي ينفقه علي القضايا والصراع؟!
فإذا كنت تسألني هل توجد لدي الإنسان نفس العاطفة التي توجد لدي الحيوان تجاه أبنائه.. فإن سؤالك الأليم ليس سؤالا ننتظر الاجابة عنه, وإنما هو زفرة صدر ممرور مما قد تتردي إليه في بعض الأحيان مشاعر البعض من جحود وأنانية ولا مبالاة بمصير ثمرات القلوب.. وإذا كان ثمة سؤال يبحث عن إجابة له حقا.. فهو هذا السؤال الذي أتوقف أمامه كثيرا في مثل هذه المآسي الزوجية.. وهو كيف تحول الحب الذي تحدي به أبواك الجميع في بداية ارتباطهما إلي كراهية ضارية للطرف الآخر ورغبة وحشية في الانتقام منه ولو بطعنه في صدر أبنائه منه؟
أولا يلاحظ معي البعض أن كثيرا من هذه المآسي قد بدأت بحب تحدي به طرفاه الجميع وتمسكا به ونجحا في فرض إرادتهما علي الآخرين مما يعني أنه كان من البداية ارتباطا لايرشحه العقلاء للنجاح والاستمرار ويرون فيه ما لايراه طرفاه اللذان حجبت عنهما العاطفة الهوجاء تعارضه من البداية مع أحكام العقل؟!
إن المثل الهولندي القديم يقول: ان الحب اذا انقلب إلي كراهية فإنه لايعرف حدودا, وبعض علماء النفس يقولون لنا: ان الكراهية قد تصبح في بعض الأحيان هي الوجه الآخر للحب وان هناك نوعا مركبا من العلاقات العاطفية يصفونه بأنه علاقة الحب ـ الكره, التي تجتمع فيها المشاعر المتناقضة نتيجة لأن أحد الطرفين ينقم علي الآخر بعض تصرفاته فيكرهه من أجلها.. لكنه ينجذب إليه في نفس الوقت لعاطفة أقوي هي عاطفة الحب فيتواصل معه منطويا له علي هذه المشاعر المتناقضة.. غير أنني علي الناحية الأخري أؤمن بأن الحب الحقيقي لايمكن أن يتحول ذات يوم إلي كراهية حقيقية للطرف الآخر, وانه قد يفتر أو يموت, لكنه لاينقلب أبدا إلي النقيض ولا يدفع صاحبه إلي السعي لإيذاء شريكه السابق أو تدميره, لهذا فإنني أتحفظ علي حكاية الحب الذي تحدي به أبواك الجميع في بداية حياتهما معا هذه.. كما أتحفظ كذلك علي كل المعاني البشعة التي يعكسها انصراف كل من أبويك لحياته الجديدة, وصراعه مع شريكه السابق بغير أن يجهد نفسه بالتوقف أو التفكر في مصير ابنيه من هذا الحب السابق المزعوم!!
18أعجبني · ·
=241920815855322&p[1]=1073741826&profile_id=241920815855322&share_source_type=unknown]المشاركة