عبد الوهاب مطاوع
الإثنين
بـريــد الأهــرام
41115 السنة 123-العدد 1999 يوليو 2 18 من ربيع الأول 1420 هــ الجمعة
الأسئلة الصامتة؟
أنا شاب علي أبواب الأربعين من عمري نشأت في أسرة طيبة بين أب كريم يرحمه الله وأم فاضلة أطال الله عمرها وعدد من الإخوة والأخوات, وقد رحل أبي عن الحياة وأنا في السادسة عشرة من عمري وحصلت علي شهادتي العليا, وأنهيت خدمتي العسكرية وسافرت للعمل بإحدي الدول العربية, وخلال عملي بها أعلنت خطبتي لإبنة خالتي وهي فتاة كريمة الأخلاق وعقدت قراني عليها وبعد3 شهور تم الزفاف وقضيت مع عروسي في مصر شهرين ثم سافرت الي مقر عملي, وبعد8 شهور اخري رجعت اليها وقضيت معها75 يوما, وبعد شهور اخري لحقت هي بي في مقر عملي وسعدت بها ومضت الأيام بنا هادئة, غير انني لم ألمس بشائر الحمل بعد كل هذه الفترة فتوجهت الي احد المعامل لإجراء تحليل للخصوبة, وقرأت النتيجة في وجه طبيب المعمل قبل ان يصارحني بها وتقبلتها هادئا, ثم أعدت إجراء التحليل في معمل آخر.. ثم ثالث وجاءت النتيجة مماثلة.. وإلي هذه اللحظة لم أكن قد أخبرت أحدا علي ظهر الأرض إنه لا أمل لي البتة في الإنجاب لانعدام الحيوانات المنوية لدي نهائيا.. ولم أكن أيضا قد فقدت هدوئي وتماسكي, لكن نتيجة التحليل الثالث كانت قد قضت علي آخر أمل تعلقت به.. فشعرت بحزن شديد أذهلني حتي رؤية صاحب العمل حين صادفني عند عودتي للعمل.. وبعد قليل من رجوعي للعمل سألني مديري عن سبب تجاهلي لصاحب العمل حين التقيت به منذ قليل.. فأجبته صادقا بأنني لم التق به, فقال لي بل التقيت به واستغرب عدم مصافحتك له.. فوجدتني ابوح له بما أهمني وشغل خاطري.. وبعد قليل طلبني صاحب العمل في مكتبه وأسمعني من الكلام الطيب ما خفف عني بعض احزاني وطلب مني التمسك بالصبر والأمل في رحمة الله رب العالمين..
وجاء الي المدينة بعد شهور جراح مصري كبير فعرضت نفسي عليه, واستقر الرأي علي إجراء فحص جراحي وأخذ عينة لتحليلها ووافقت علي ذلك بشرط عودتي لبيتي في نفس اليوم لكيلا تشعر زوجتي بالقلق, وتم إجراء الجراحة وانتظرت نتائج تحليل العينة لمدة أسبوعين وقلبي يخفق بالأمل والخوف, وحين توجهت إلي الطبيب الجراح لمعرفة النتيجة تكرر لي ما حدث في أول تحليل وقرأت النتيجة في وجه الطبيب قبل أن يصارحني بها ولم أقل له سوي إنه سبحانه وتعالي قد قدر لي هذا وما شاء فعل ووجدت عبارة لأحد الصوفية الكبار تتردد بقوة في أعماقي هي: ربما منع فأعطي, وربما أعطي فمنع!..
ورجعت الي البيت هادئا فكان أول ما فعلته هو ان جلست مع زوجتي وشرحت لها كل شئ بصراحة تامة, وطلبت منها ان تفكر جيدا في امرها, فاسمعتني اكرمها الله من الكلمات الحانية ما أثلج صدري وخفف عني بعض الألم, وصارحت شقيقي الأكبر الذي يعمل معي في نفس المدينة بأمري.. ووجدتني بعد قليل أخفف عنه ألمه وهمه والوم نفسي ان اثقلت عليه, بما صارحته به.
ومضت حياتي مع زوجتي في سلام الي ان رجعنا لمصر بعد عامين ووجدتني محاصرا بالأسئلة الصامتة في عيون الأهل والأخوة والأخوات والأصهار عن سبب عدم حمل زوجتي وإنجابها حتي الآن, ولم استطع بالطبع مصارحة أحد من أهلي بالحقيقة ليس خجلا منها وإنما إشفاقا من وقعها عليهم بعد ان جربت ذلك من قبل مع شقيقي الأكبر ورجعنا بعد انتهاء الإجازة الي مقر عملنا.. وأمضينا عامين آخرين, ثم رجعنا الي بلدنا مرة اخري في اجازة وكان قد مضي علي زواجنا حوالي سبع سنوات دون إنجاب فوجدتني في وضع لا أحسد عليه.. ووجدت التساؤلات التي كانت صامتة في الزيارة السابقة قد أصبحت صريحة, ووجدتني ملزما بأن أشرح لكل فرد من الأهل والأصهار ما حدث بالضبط.. وما فعلت.. وما قاله الأطباء وكيف كانت نتائج التحاليل الأولية.. والنهائية إلخ وهو حديث ثقيل علي النفس ومؤلم لصاحبه وحدث ما كنت أخشاه من ردود الأفعال التي تباينت بين الحزن والتعاطف.. والشماتة من البعض لا أدري لماذا.. غير أن هذه الردود لم تترك والحمد لله أي أثر علي علاقة زوجتي بي.. وإن كانت قد شرخت علاقتي أنا بالأهل كلهم للأسف الشديد ورجعت الي غربتي وفي النفس مرارة وفي الحلق غصة.
فإذا سألتني ما هي المشكلة الآن.. أجبتك انها تتمثل في انني قد اصبحت انسانا آخر مع كل من اضطرني عن قصد او سوء نية ان اعلن علي الملأ شيئا شديد الخصوصية بالنسبة لي, وهو عدم قدرتي علي الإنجاب لأسباب لا حيلة لي فيها, وذلك بإلحاحه علي السؤال أو بإحراجي بالتساؤلات التي لا مفر من تقديم الإجابات عنها, وأتمني أن أرجع كما كنت مع الجميع لكنني لا أملك ذلك للأسف حتي الآن, ولهذا فلقد كتبت لك هذه الرسالة لكي أرجو من كل الأهل ـ أهلي وأهل الجميع ـ أن يرحموا كل زوجين يريدان ان يحتفظا لنفسيهما بما يخصهما من أسرار لا ينعكس أثرها سوي عليهما وحدهما, وأن يترفقوا بهما في السؤال سواء بأسئلة العيون أو بالأسئلة الصريحة, لأن السؤال غير اللائق أو الجارح لا ينمحي أثره أبدا من نفسي من يوجه اليه, علي عكس ما يتصورون وفي النهاية فإني أطمئنك أنني وزوجتي علي أحسن حال, ونرعي الله في عشرتنا معا وقد اصبح بيتنا واحة للمحبة وراحة البال والاحترام وأكرمنا الله بالحج والعمرة عدة مرات, وشكرا لك أن أتحت لي هذه الفرصة لإخراج هذا البخار المكتوم من صدري.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ولكاتب هذه الرسالة اقول:
من اشق الأمور علي الانسان المهموم بأمره ان يجد نفسه مضطرا إلي التصريح بما يتحرج أن يعرفه عنه الآخرون, أو ربما كان يرجو ان يعفوه من الحديث عنه أو الاشارة اليه, تلطفا منهم وادراكا لحساسية الأمر وخصوصيته بالنسبة له.
ولكن ماذا نفعل ياصديقي مع من قد يدفعهم حرصهم علينا أو حبهم لنا في بعض الاحيان إلي عدم الاكتفاء بملاحظة الحال بغير سؤال, والالحاح علينا بالتسأولات الصامتة أو الصريحة عما لاتكون اجابته إلا كشف افكارنا والحديث عما لايسعدنا البوح به؟
وماذا نفعل مع غيرهم من البشر الذين لايدركون أين تقع اسئلتهم المؤلمة من القلوب الحزينة.
لقد قال بعض الحكماء ان من ادب السؤال, ألا يسأل المرء صاحبه عما يعلم أنه يتحرج منه التصريح به, أو تؤلمه مجرد الأشارة اليه, وأن من لايلتزم بمثل هذا الأدب في التعامل مع الآخرين انما يضطرهم لمكابدة عناء الكذب لاخفاء مالا يفضلون ان يكون موضوعا للنقاش مع الغير, أو يضطرهم لمكابده عناء البوح بما يريدون ان يطلع عليه غيرهم.
ولهذا فلقد نهانا الله سبحانه وتعالي عن الفضول الذي يقتحم خصوصيات الآخرين ويهتك استارهم, وعن كثرة السؤال التي تفتح الأبواب لنطأ الجراح ـ وايلام المشاعر, واثارة المتاعب.
ولقد نزلت الأية الكريمة101 من سورة المائدة التي تقول: يا أيها الذين أمنوا لاتسألوا عن اشياء ان تبد لكم تسؤكم
فيمن كانوا يلحقون بالسؤال علي رسول الله صلي الله عليه وسلم عن أشياء لم ينزل فيها أمر ونهي, او يلحون في طلب تفصيل أمور أجملتها القرآن وجعل في اجمالها سعة للناس,
او بالاستفسار عن أشياء لاضرورة لكشفها لان كشفها قد يؤذي السائل أو غيره من البشر, غير ان المفسرين يجعلون منها منهاجا اخلاقيا للتعامل بين البشر في أمور الحياة الأخري, ويرون في هذا المنهج درءا لشرور الفضول والتطفل علي خصوصيات الآخرين واسرارهم
والمثل الإنجليزي القديم: لاتسألني فاكذبك.
اي لاتسلني عما لااحب البوح به لك أو لغيرك فتضطرني للكذب!.
وليس السؤال المحرج هو وحده السؤال الذي ينطق به اللسان, لأن من أسئلة العيون الصامتة ايضا مالايقل احراجا للمسئول عن السؤال الناطق, لهذا فقد كان من حسن الكياسة دائما ان يكبح المرء لسانه عما لايجوز له السؤال عنه.. وعينه أيضا عما لايجوز لها الالماح اليه.
والأمر معقود في النهاية لحسن الادراك والفهم اللذين ينبغي ان يتوفرا لدي المحيطين بالمرء من أهله واصدقائه!
اذا ماذا يعني سؤال زوجين مضي علي زواجهما سبع سنوات دون حمل ولاانجاب عن أسباب عدم انجابهما سوي ايلام المسئول.. ونكأ جراحه ووضعه في موضع المطالب بتقديم تفسير لما لاح حيلة له فيه ولاجريرة؟ وماذا يغير مثل هذا السؤال الجارح من واقع الحال.
وأي عائد جدي له سوي جرح مشاعر المقصود به وتذكيره بحرمانهالذي لاحيلة له فيه ولم يختره لنفسه بارادته؟
انني معك ياصديقي تماما في ان من واجب الجميع عدم الالحاح بالسؤل علي اي زوجين يرغبان في ان يحتفظا لنفسيهما بمساحة من الخصوصية لايجوز حتي لاقرب الناس اليها اقتحامها, أو التطفل عليها ومعك أيضا في ان من جراحات اللسان مالا التئام له في بعض الأحيان علي عكس جراحات السنانأي السيوف علي حد تعبير الشاعر العربي, لكني ادعوك من ناحية أخري الي التخفف من بعض حساسيتك الزائدة من تجاه هذا الأمر, لأن مالاحيله للمرء معه لاذنب له عنه.. ولاعيب فيه.
ومادمت تحيا حياتك في وئام ووفاق مع زوجتك ويرعي كل منكما الله سبحانه وتعالي في عشرته للآخر.. فلتتجاور عن مثل هذا الفضول الذي كدرصفوك في بعض الاوقات, ولتلتمس لأصحابه بعض العذر فيه باهتمامهم بأمرك وحبهم لك وحرصهم عليك.. حتي وان اساء مثل هذا الاهتمام التعبير عن نفسه بالالحاح عليك بالتساؤلات المحرجة.. فمثل هذا الفضول لن يستمر ولن يتواصل, ولسوف يعرف اصحابه الآن أنه لاعائد له سوي تكدير القلوب القلوب المحروعة فيتعلمون درس التجربة.. ويتجنبون العودة اليه مرة أخري.
ولقد اشرت الي الكلمة الحكيمة التي ترددت في اعماقك بقوة حين علمت بنتيجة الفحص الجراحي: ربما اعطاك فمنعك وربما منعك فاعطاك, وهي من الحكم المعروفة, لابن عطاء الله السكندري تاج الدين وترجمان العارفين, الجذامي نسبا, المالكي مذهبا, السكندري دارا, القاهري مزارا, الصوفي حقيقة الشاذلي طريقة, أعجوبة زمانه ونخبة عصره وأوانه المتوفي سنة تسع وسبعمائة هجرية كما وصفه, ابن عجيبة وقد قال النفري الرندي: في شرحه لهذه الحكمة التي تحمل رقم83 في سلسلة الحكم العطائية, ربما اعطاك الله سبحانه وتعالي ماتميل اليه نفسك, فمنعك التوفيق والطاعة والاقبال عليه, وربما منعك منه او من بعضه فاعطاك التوفيق والرضا والقبول, وهكذا فقد يكون المنع في حقيقته عطاء والعطاء في جوهره منعا
فاسعد بحياتك الهانئة وزوجتك الفاضلة الوفية واشكر الخالق الكريم عطاءه.. وتجاوز عمن اساء اليك بغير تعمد والسلام.
صورة: بـريــد الأهــرام 41115 السنة 123-العدد 1999 يوليو 2 18 من ربيع الأول 1420 هــ الجمعة الأسئلة الصامتة؟ أنا شاب علي أبواب الأربعين من عمري نشأت في أسرة طيبة بين أب كريم يرحمه الله وأم فاضلة أطال الله عمرها وعدد من الإخوة والأخوات, وقد رحل أبي عن الحياة وأنا في السادسة عشرة من عمري وحصلت علي شهادتي العليا, وأنهيت خدمتي العسكرية وسافرت للعمل بإحدي الدول العربية, وخلال عملي بها أعلنت خطبتي لإبنة خالتي وهي فتاة كريمة الأخلاق وعقدت قراني عليها وبعد3 شهور تم الزفاف وقضيت مع عروسي في مصر شهرين ثم سافرت الي مقر عملي, وبعد8 شهور اخري رجعت اليها وقضيت معها75 يوما, وبعد شهور اخري لحقت هي بي في مقر عملي وسعدت بها ومضت الأيام بنا هادئة, غير انني لم ألمس بشائر الحمل بعد كل هذه الفترة فتوجهت الي احد المعامل لإجراء تحليل للخصوبة, وقرأت النتيجة في وجه طبيب المعمل قبل ان يصارحني بها وتقبلتها هادئا, ثم أعدت إجراء التحليل في معمل آخر.. ثم ثالث وجاءت النتيجة مماثلة.. وإلي هذه اللحظة لم أكن قد أخبرت أحدا علي ظهر الأرض إنه لا أمل لي البتة في الإنجاب لانعدام الحيوانات المنوية لدي نهائيا.. ولم أكن أيضا قد فقدت هدوئي وتماسكي, لكن نتيجة التحليل الثالث كانت قد قضت علي آخر أمل تعلقت به.. فشعرت بحزن شديد أذهلني حتي رؤية صاحب العمل حين صادفني عند عودتي للعمل.. وبعد قليل من رجوعي للعمل سألني مديري عن سبب تجاهلي لصاحب العمل حين التقيت به منذ قليل.. فأجبته صادقا بأنني لم التق به, فقال لي بل التقيت به واستغرب عدم مصافحتك له.. فوجدتني ابوح له بما أهمني وشغل خاطري.. وبعد قليل طلبني صاحب العمل في مكتبه وأسمعني من الكلام الطيب ما خفف عني بعض احزاني وطلب مني التمسك بالصبر والأمل في رحمة الله رب العالمين.. وجاء الي المدينة بعد شهور جراح مصري كبير فعرضت نفسي عليه, واستقر الرأي علي إجراء فحص جراحي وأخذ عينة لتحليلها ووافقت علي ذلك بشرط عودتي لبيتي في نفس اليوم لكيلا تشعر زوجتي بالقلق, وتم إجراء الجراحة وانتظرت نتائج تحليل العينة لمدة أسبوعين وقلبي يخفق بالأمل والخوف, وحين توجهت إلي الطبيب الجراح لمعرفة النتيجة تكرر لي ما حدث في أول تحليل وقرأت النتيجة في وجه الطبيب قبل أن يصارحني بها ولم أقل له سوي إنه سبحانه وتعالي قد قدر لي هذا وما شاء فعل ووجدت عبارة لأحد الصوفية الكبار تتردد بقوة في أعماقي هي: ربما منع فأعطي, وربما أعطي فمنع!.. ورجعت الي البيت هادئا فكان أول ما فعلته هو ان جلست مع زوجتي وشرحت لها كل شئ بصراحة تامة, وطلبت منها ان تفكر جيدا في امرها, فاسمعتني اكرمها الله من الكلمات الحانية ما أثلج صدري وخفف عني بعض الألم, وصارحت شقيقي الأكبر الذي يعمل معي في نفس المدينة بأمري.. ووجدتني بعد قليل أخفف عنه ألمه وهمه والوم نفسي ان اثقلت عليه, بما صارحته به. ومضت حياتي مع زوجتي في سلام الي ان رجعنا لمصر بعد عامين ووجدتني محاصرا بالأسئلة الصامتة في عيون الأهل والأخوة والأخوات والأصهار عن سبب عدم حمل زوجتي وإنجابها حتي الآن, ولم استطع بالطبع مصارحة أحد من أهلي بالحقيقة ليس خجلا منها وإنما إشفاقا من وقعها عليهم بعد ان جربت ذلك من قبل مع شقيقي الأكبر ورجعنا بعد انتهاء الإجازة الي مقر عملنا.. وأمضينا عامين آخرين, ثم رجعنا الي بلدنا مرة اخري في اجازة وكان قد مضي علي زواجنا حوالي سبع سنوات دون إنجاب فوجدتني في وضع لا أحسد عليه.. ووجدت التساؤلات التي كانت صامتة في الزيارة السابقة قد أصبحت صريحة, ووجدتني ملزما بأن أشرح لكل فرد من الأهل والأصهار ما حدث بالضبط.. وما فعلت.. وما قاله الأطباء وكيف كانت نتائج التحاليل الأولية.. والنهائية إلخ وهو حديث ثقيل علي النفس ومؤلم لصاحبه وحدث ما كنت أخشاه من ردود الأفعال التي تباينت بين الحزن والتعاطف.. والشماتة من البعض لا أدري لماذا.. غير أن هذه الردود لم تترك والحمد لله أي أثر علي علاقة زوجتي بي.. وإن كانت قد شرخت علاقتي أنا بالأهل كلهم للأسف الشديد ورجعت الي غربتي وفي النفس مرارة وفي الحلق غصة. فإذا سألتني ما هي المشكلة الآن.. أجبتك انها تتمثل في انني قد اصبحت انسانا آخر مع كل من اضطرني عن قصد او سوء نية ان اعلن علي الملأ شيئا شديد الخصوصية بالنسبة لي, وهو عدم قدرتي علي الإنجاب لأسباب لا حيلة لي فيها, وذلك بإلحاحه علي السؤال أو بإحراجي بالتساؤلات التي لا مفر من تقديم الإجابات عنها, وأتمني أن أرجع كما كنت مع الجميع لكنني لا أملك ذلك للأسف حتي الآن, ولهذا فلقد كتبت لك هذه الرسالة لكي أرجو من كل الأهل ـ أهلي وأهل الجميع ـ أن يرحموا كل زوجين يريدان ان يحتفظا لنفسيهما بما يخصهما من أسرار لا ينعكس أثرها سوي عليهما وحدهما, وأن يترفقوا بهما في السؤال سواء بأسئلة العيون أو بالأسئلة الصريحة, لأن السؤال غير اللائق أو الجارح لا ينمحي أثره أبدا من نفسي من يوجه اليه, علي عكس ما يتصورون وفي النهاية فإني أطمئنك أنني وزوجتي علي أحسن حال, ونرعي الله في عشرتنا معا وقد اصبح بيتنا واحة للمحبة وراحة البال والاحترام وأكرمنا الله بالحج والعمرة عدة مرات, وشكرا لك أن أتحت لي هذه الفرصة لإخراج هذا البخار المكتوم من صدري. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. ولكاتب هذه الرسالة اقول: من اشق الأمور علي الانسان المهموم بأمره ان يجد نفسه مضطرا إلي التصريح بما يتحرج أن يعرفه عنه الآخرون, أو ربما كان يرجو ان يعفوه من الحديث عنه أو الاشارة اليه, تلطفا منهم وادراكا لحساسية الأمر وخصوصيته بالنسبة له. ولكن ماذا نفعل ياصديقي مع من قد يدفعهم حرصهم علينا أو حبهم لنا في بعض الاحيان إلي عدم الاكتفاء بملاحظة الحال بغير سؤال, والالحاح علينا بالتسأولات الصامتة أو الصريحة عما لاتكون اجابته إلا كشف افكارنا والحديث عما لايسعدنا البوح به؟ وماذا نفعل مع غيرهم من البشر الذين لايدركون أين تقع اسئلتهم المؤلمة من القلوب الحزينة. لقد قال بعض الحكماء ان من ادب السؤال, ألا يسأل المرء صاحبه عما يعلم أنه يتحرج منه التصريح به, أو تؤلمه مجرد الأشارة اليه, وأن من لايلتزم بمثل هذا الأدب في التعامل مع الآخرين انما يضطرهم لمكابدة عناء الكذب لاخفاء مالا يفضلون ان يكون موضوعا للنقاش مع الغير, أو يضطرهم لمكابده عناء البوح بما يريدون ان يطلع عليه غيرهم. ولهذا فلقد نهانا الله سبحانه وتعالي عن الفضول الذي يقتحم خصوصيات الآخرين ويهتك استارهم, وعن كثرة السؤال التي تفتح الأبواب لنطأ الجراح ـ وايلام المشاعر, واثارة المتاعب. ولقد نزلت الأية الكريمة101 من سورة المائدة التي تقول: يا أيها الذين أمنوا لاتسألوا عن اشياء ان تبد لكم تسؤكم فيمن كانوا يلحقون بالسؤال علي رسول الله صلي الله عليه وسلم عن أشياء لم ينزل فيها أمر ونهي, او يلحون في طلب تفصيل أمور أجملتها القرآن وجعل في اجمالها سعة للناس, او بالاستفسار عن أشياء لاضرورة لكشفها لان كشفها قد يؤذي السائل أو غيره من البشر, غير ان المفسرين يجعلون منها منهاجا اخلاقيا للتعامل بين البشر في أمور الحياة الأخري, ويرون في هذا المنهج درءا لشرور الفضول والتطفل علي خصوصيات الآخرين واسرارهم والمثل الإنجليزي القديم: لاتسألني فاكذبك. اي لاتسلني عما لااحب البوح به لك أو لغيرك فتضطرني للكذب!. وليس السؤال المحرج هو وحده السؤال الذي ينطق به اللسان, لأن من أسئلة العيون الصامتة ايضا مالايقل احراجا للمسئول عن السؤال الناطق, لهذا فقد كان من حسن الكياسة دائما ان يكبح المرء لسانه عما لايجوز له السؤال عنه.. وعينه أيضا عما لايجوز لها الالماح اليه. والأمر معقود في النهاية لحسن الادراك والفهم اللذين ينبغي ان يتوفرا لدي المحيطين بالمرء من أهله واصدقائه! اذا ماذا يعني سؤال زوجين مضي علي زواجهما سبع سنوات دون حمل ولاانجاب عن أسباب عدم انجابهما سوي ايلام المسئول.. ونكأ جراحه ووضعه في موضع المطالب بتقديم تفسير لما لاح حيلة له فيه ولاجريرة؟ وماذا يغير مثل هذا السؤال الجارح من واقع الحال. وأي عائد جدي له سوي جرح مشاعر المقصود به وتذكيره بحرمانهالذي لاحيلة له فيه ولم يختره لنفسه بارادته؟ انني معك ياصديقي تماما في ان من واجب الجميع عدم الالحاح بالسؤل علي اي زوجين يرغبان في ان يحتفظا لنفسيهما بمساحة من الخصوصية لايجوز حتي لاقرب الناس اليها اقتحامها, أو التطفل عليها ومعك أيضا في ان من جراحات اللسان مالا التئام له في بعض الأحيان علي عكس جراحات السنانأي السيوف علي حد تعبير الشاعر العربي, لكني ادعوك من ناحية أخري الي التخفف من بعض حساسيتك الزائدة من تجاه هذا الأمر, لأن مالاحيله للمرء معه لاذنب له عنه.. ولاعيب فيه. ومادمت تحيا حياتك في وئام ووفاق مع زوجتك ويرعي كل منكما الله سبحانه وتعالي في عشرته للآخر.. فلتتجاور عن مثل هذا الفضول الذي كدرصفوك في بعض الاوقات, ولتلتمس لأصحابه بعض العذر فيه باهتمامهم بأمرك وحبهم لك وحرصهم عليك.. حتي وان اساء مثل هذا الاهتمام التعبير عن نفسه بالالحاح عليك بالتساؤلات المحرجة.. فمثل هذا الفضول لن يستمر ولن يتواصل, ولسوف يعرف اصحابه الآن أنه لاعائد له سوي تكدير القلوب القلوب المحروعة فيتعلمون درس التجربة.. ويتجنبون العودة اليه مرة أخري. ولقد اشرت الي الكلمة الحكيمة التي ترددت في اعماقك بقوة حين علمت بنتيجة الفحص الجراحي: ربما اعطاك فمنعك وربما منعك فاعطاك, وهي من الحكم المعروفة, لابن عطاء الله السكندري تاج الدين وترجمان العارفين, الجذامي نسبا, المالكي مذهبا, السكندري دارا, القاهري مزارا, الصوفي حقيقة الشاذلي طريقة, أعجوبة زمانه ونخبة عصره وأوانه المتوفي سنة تسع وسبعمائة هجرية كما وصفه, ابن عجيبة وقد قال النفري الرندي: في شرحه لهذه الحكمة التي تحمل رقم83 في سلسلة الحكم العطائية, ربما اعطاك الله سبحانه وتعالي ماتميل اليه نفسك, فمنعك التوفيق والطاعة والاقبال عليه, وربما منعك منه او من بعضه فاعطاك التوفيق والرضا والقبول, وهكذا فقد يكون المنع في حقيقته عطاء والعطاء في جوهره منعا فاسعد بحياتك الهانئة وزوجتك الفاضلة الوفية واشكر الخالق الكريم عطاءه.. وتجاوز عمن اساء اليك بغير تعمد والسلام.[b]