ارب النجاة!
أقرأ بريدكم كل جمعة بانتظام, واستمتع بما يقدمه من تجارب البشر ودروس الحياة,وهداني تفكيري إلي أن أكتب إليك مشكلتي عسي أن تحسم ترددي, وتجد حلا يكفل أن أحيا ما تبقي لي من عمر في هدوء, وسكينة
فأنا سيدة تخطيت سن الأربعين, وتربيت في أسرة طيبة لأبوين يشغلان منصبين مرموقين في جهتي عملهما, وتعلمت في مدارس أجنبية, ثم تخرجت في كلية نظرية بتقدير أهلني للعمل في شركة بقطاع مهم في الدولة, ولم ارتبط يوما بأي زميل سواء في الدراسة أو العمل, وكنت حريصة علي الابتعاد عن الشباب بعكس صديقاتي اللاتي ارتبطن بزملاء لهن, ولا أعرف ما إذا كانت هذه العلاقات قد انتهت بالزواج أو لا, فالحقيقة انني ادخرت بركان مشاعري لفارس أحلامي المنتظر, وربما تظنني شخصية رومانسية أو عاطفية, لكنك إذا رأيتني سوف تجدني جادة وقوية, وقادرة علي إدارة دفة الحديث بعقلانية شديدة, كما انني أتمتع بجمال هاديء. ومظهر جيد, وتواضع جم, وما يضفي علي الرومانسية هو انني شخصية مرحة, ولعل ذلك هو ما دفع كثيرين من الشباب لطلب يدي, لكنني رفضتهم جميعا لمجرد أن بعضهم عرسان صالون أو لعدم قناعتي بالبعض الآخر, إلي أن تسرب القلق إلي أبي لرفضي المتكرر الزواج بهذه الطريقة, ثم ظهر شاب من معارف والدتي, وحدثني عن رغبته في الارتباط بي, فرفضته في باديء الأمر لانني لم أرتح إليه, ولم يعجبني أسلوبه في الكلام, ولا نظرته إلي الكثير من أمور الحياة, وأحسست بأن حاجزا ما يحول بيننا, لكنه طاردني في كل مكان أذهب إليه, ولاحقني تليفونيا, مؤكدا حبه لي, وعرفت أنه فعل ذلك بإيعاز من والدتي التي كانت تراه عريسا مناسبا لي, وأمام إلحاحه وافقت عليه من منطلق أنه يحبني, ومن يحب لا يكره, ولا يؤذي محبوبته, وزكاه أيضا في نظر أسرتي أنه من أسرة عريقة ويشغل وظيفة مرموقة.. وتزوجنا في حفل كبير, وانتقلت إلي عش الزوجية, وأنا أتطلع إلي حياة سعيدة, ولكن ما هي إلا شهور معدودة حتي تكشفت لي شخصيته الحقيقية, فلقد وجدته إنسانا ضعيفا أمام أهله, ويفشي أسرار بيته لهم حتي فيما يخص أدق الأمور.. وعرفت ذلك من أول زيارة لنا إليهم, حيث كانت هناك محاكمة أسرية في انتظاري ووجه إلي كل منهم اتهاما, وكان علي أن أدافع عن التهم المنسوبة لي, وكلها مجرد كلام مرسل, لم أفهم منه شيئا, ووجدتني أسيرة للجحيم بلا ذنب ولا جريرة, وحملت في ابني الأول, وقاسيت الأمرين في فترة الحمل, ولم يعبأ زوجي بمتاعبي, وبينما كنت ألازم سرير المرض, كان هو يتابع التليفزيون ويستمتع بالأفلام والمسلسلات, وبعد الولادة اقتضت حالة ابني أن أعرضه علي الأطباء, فكنت أتردد عليهم وحدي, حتي لو كانت مواعيد عياداتهم متأخرة, ولم يفكر مرة واحدة في الذهاب معي إلي الطبيب ولو من باب الاطمئنان علي ابنه, وعرفت أن الولد مصاب بالربو, ولا يستطيع التنفس بشكل طبيعي, ولابد له من علاج مكثف لفترة طويلة, فنقلت إليه ما أوصاني به الطبيب ولكنني فوجئت به يعايرني بأن المرض الذي أصيب به ابني ورثه عن جده, ويقصد أبي المصاب بالمرض نفسه, وشعرت بغصة في قلبي وجرح شديد, فتحاملت علي نفسي, وأخذت أجازة بدون راتب من عملي لرعاية ابني, ومرت الأيام بحلوها ومرها ثم أنجبت ابني الثاني فاكتشفنا به عيبا هو الآخر في قدميه, وقد ظهر هذا العيب بوضوح عندما بدأ في تعلم المشي, وتكررت اهانات زوجي لي وكلماته الجارحة, وتهرب من مسئولية الطفلين, وزادت حدة تدخلات أهله, لدرجة أن والدته سبتني ذات مرة بألفاظ نابية أمام والدي لمجرد أنه فاتحها في اهانات ابنها غير المقبولة.
ولما وصلت الأمور إلي هذا الحد قررت الانفصال عنه, فطلبت منه أن يطلقني. وظن أن هذا الطلب مجرد تهديد له, لا أكثر, فتمادي في كبريائه وعنجهيته, ولم يعر ما قلته أدني اهتمام فذبلت ومرضت ونقص وزني بشكل ملحوظ فخشي والدي أن يحدث لي مكروه, فنزل علي رغبتي في الانفصال واتفقنا معه علي الطلاق مقابل ابرائه التام من كل مستحقاتي المادية ما عدا مبلغ ضئيل للطفلين يساعدني علي تربيتهما, مع أن راتبه وقتها كان يزيد علي خمسة آلاف جنيه, بالاضافة إلي عائد نصيبه من ميراثه عن والده.
وهكذا لم أقض معه سوي ثلاث سنوات كلها حسرة وألم.. حسرة علي قبولي الارتباط بشخص كنت أشعر منذ البداية بأنه غير مناسب لي. وألم علي ما صرت إليه ومرض ابني, ولم أجد بابا يخرجني من هذه الحالة الكئيبة التي وقعت أسيرة لها سوي العودة إلي عملي الذي انقطعت عنه من أجلهما, وكلل الله صبري علي ابتلائي بترقيتي في عملي, ثم شفاء الولدين واحدا تلو الآخر بالعلاج والعمليات الجراحية, وأهداني والدي شقة من ماله الخاص, فأثثتها من مدخراتي, واحتويت طفلي وأغلقنا باب شقتنا علي أنفسنا, ومنعت نفسي من زيارة صديقاتي, وكنت إذا خرجت في مناسبة ما أصطحبهما معي, كما حرصت علي وجود والدتي في معظم تحركاتي حتي لا يتسرب القلق إلي بعض السيدات المتزوجات اللاتي يخفن علي أزواجهن من المطلقات وما أزعجني هو المعاملة السيئة التي تعاملت بها أسرة مطلقي مع ولدي والتي وصلت أحيانا إلي الضرب والسباب, وكاد أبني الأكبر أن يدخل في حالة نفسية سيئة جراء هذه المعاملة القاسية, لولا أنني لجأت إلي حل يبعده عن هذا الجو السيئ, فلقد ركزت اهتمامي علي تدريبهما في أحد الأندية, وتحفيظهما القرآن الكريم, وعلمتهما الكتابة علي الكمبيوتر, ولم ألجأ إلي الأسلحة غير الأخلاقية للانتقام من أبيهما, الذي تزوج من أخري وأنجب منها أبناء آخرين, ونسي ولديه مني مع أنهما من لحمه ودمه!
وعوضني ربي بحب زملائي والعاملين بشركتي, فرشحوني للتحدث باسمهم والدفاع عنهم في إحدي المهام, ونجحت في مهمتي, وأديت دوري علي خير ما يرام فزاع صيتي في معظم شركات القطاع الذي أعمل به, ووجدت في ذلك تعويضا نفسيا عما عانيته في حياتي, وأديت أيضا دورا اجتماعيا مهما في الكثير من الجهات الخيرية, كما أتابع الجهد الكبير لبريد الأهرام في المجالين الطبي والإنساني, وأرجو أن تدعو قراءك إلي حملة جديدة لتزويج غير القادرات, وسأكون بعون الله نواتها حيث أنني مستعدة للمشاركة في تجهيز عروس ترشحها لي من المتعثرات, ويكون قد مر عليها وقت طويل ولم تف بنصيبها من عفش الزوجية.
لقد أقلمت حياتي علي الأوضاع التي أعيشها لكن والدي يلح علي بقبول فكرة الزواج من جديد, وكذلك معارفي وأقاربي, ويحذرونني من الوحدة القاسية التي تنتظرني بعد تخرج نجلي وزواجهما, ولكني مترددة, وأخشي تكرار تجربتي مع زوجي السابق, وكلما سألوني عما إذا كنت قد فكرت فيما عرضوه علي أغير مسار الحديث, فهل أقبل بالزواج مع ما فيه من احتمالات النجاح والفشل أم أواصل حياتي بمفردي مستعينة بالدور الاجتماعي الذي أقوم به والذي أقضي به وقت فراغي.. إن الحيرة تقتلني, وأريد أن أحسم أمري, فبماذا تشير علي؟.
ولكاتبة هذه الرسالة أقول:
لقد أخطأت بقبولك الزواج من هذا الرجل برغم أنك لم ترتاحي إليه, فليس معني أن تضغط أمك عليك, ويطاردك هو في كل مكان, أن توافقي علي الزواج منه, وخصوصا أن كل المؤشرات أكدت أن هذه الزيجة محكوم عليها بالفشل, فالمنهج الصحيح لتكوين أسرة ناجحة يقوم علي الرفق والتراحم والود المتبادل بين الزوجين, حيث يقول الحق تبارك وتعالي: ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون, فإذا تجاوز أحد الزوجين يجب علي شريكه الصبر والتحمل والصفح إذا كان هذا التجاوز تصرفا عارضا لا يتكرر إلا نادرا أما إذا كان قد أدمن الإساءة, ولم يتراجع عن هذا السلوك البغيض كما فعل زوجك.. فهنا تستحيل العشرة ولا بديل عن الطلاق.
ولقد قال رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ خيركم خيركم لأهله, وأنا خيركم لأهلي وقال أيضا, ليس الشديد بالصرعة, وانما الشديد من يملك نفسه عند الغضب, ولذلك كان علي زوجك السابق أن يعيد النظر في موقفه منك, وان يدرك ان اساءته إلي أهلك دليل علي وجود نقص لديه, وغياب الرؤية الواضحة عن تصرفاته, فالإنسان لا يملك من أمره شيئا, وإني أسأله: هل تضمن أن تظل كامل الصحة, معافي البدن؟.. كلا والله..
لقد غابت هذه الحقيقة عن عقله فراح يمارس ضغوطه عليك بتجريح غير مقبول بعد اصابة إبنك بالمرض الذي يعانيه والدك غير مدرك أن من منحه الصحة قادر علي استرجاعها منه.
والحقيقة أنك أمسكت بقارب النجاة, حينما وضعت النقاط علي الحروف وطالبتيه بالطلاق.. صحيح انه أبغض الحلال, لكنه الحل الأمثل لمثل حالتك, ولذلك جاءت انعكاسات الانفصال عليك ايجابية, فعادت إليك روحك الوثابة وصحتك التي ذبلت علي مدي ثلاث سنوات من الظلم والقهر, وزاد نشاطك الاجتماعي, وتقدمت في عملك. وكلل الله جهودك بشفاء ابنيك.
حقا ياسيدتي أن جوائز السماء التي انهالت عليك حصدتيها لحسن صنيعك, ونقاء معدنك, وما كان لك أن تصلي إلي هذا النجاح الكبير, لو انك ظللت أسيرة الأوهام والهواجس التي حاول مطلقك ان يزرعها فيك, فهناك طريق واحد يفضي الي السعادة هو الكف عن التوجس من أشياء لا سيطرة لإرادتنا عليها, فالحياة مليئة بالحجارة, والعاقل هو الذي لا يتعثر فيها, وانما يجمعها ويبني بها سلما يصعد به إلي النجاح.
اما زوجك الذي ملأه الغرور, فما اشبهه بالديك الذي ظن أن الشمس لم تشرق هذا الصباح إلا لكي تسمع صياحه علي حد تعبير جورج اليوت. فعاش في أوهامه التي زينت له سوء عمله حتي مع ولديه اللذين يتربيان بعيدا عنه!
وانني لا أري مانعا يحول بينك وبين الزواج من رجل ترتاحين اليه, وما اكثر الفضلاء الذين يقدرون من تتمتع بهذه الصفات الجميلة ويسعون للارتباط بها واستكمال الحياة معها, ففكري جديا في الأمر! وسوف يأتيك تعويض السماء بزوج يحتويك ويرعي ابنيك ويكون لهما أبا بديلا عن الأب المتسلط الذي لم يتعلم بعد دروس الحياة!
كما أحيي جهودك في مجال العمل الاجتماعي, وأثني علي رغبتك في الإسهام من أجل تزويج إحدي البنات غير القادرات, وتفضلي بزيارتي للاطلاع علي جهود بريد الأهرام في تزويج اليتيمات واختيار الحالة التي ترغبين في مساعدتها, أسأل الله ان ينير بصيرتك, وأن يرزقك بمن هو أهل لك, وهو وحده المستعان.
[b]