بريد الجمعة يكتبه :احمد البري
الفرصة الثمينة!
اكتب إليك هذه الرسالة وأنا مؤمن تماما بأن الإنسان لا يأخذ من الدنيا سوي نصيبه, وأن الأمة لو اجتمعت علي أن تنفعه فلن تقدم له إلا ما كتبه الله له, ولو اجتمعت علي أن تضره لن تضره إلا بشيء قد كتبه الله عليه, لكني أتساءل: لماذا تمتد معاناة بعض الناس إلي مالا نهاية؟..
ولماذا لا يقدر البعض ظروف من لا حول لهم ولا قوة, ولا يجدون سندا في هذه الحياة برغم أنهم أناس طيبون يسعون الي طلب السعادة وراحة البال, ولم يرتكبوا خطأ أو يحيدوا عن الصواب,.. ولماذا يقف غلاظ القلوب حجر عثرة أمام رغبات البعض المشروعة, ولم يعتدوا علي حقوق الآخرين؟
فأنا شاب أقترب من سن الثلاثين, ورحلت والدتي عن الحياة, وأنا في سن الرابعة ولحق بها والدي قبل أن أتم الثامنة من عمري, وكانا قد أصيبا بمرض خطير خلال عملهما بإحدي دول الخليج, وتلفت حولي فوجدتني وحيدا ومصابا بعيب خلقي في القلب, وكان علي إما أن أعيش مع أعمامي في محافظة أسيوط, أو مع أخوالي وهم أيضا يقطنون المحافظة نفسها, وألقت بي الظروف وسط أعمامي الذين لم يكن يعنيهم أمري في شيء, وتركزت أطماعهم في تركة أبي, وعاملني عمي الذي نزلت عليه ضيفا معاملة قاسية هو وزوجته, خوفا من أن أكون مصابا بنفس مرض أبوي, فعشت فيما يشبه الحجر الصحي, حيث خصصت لي أسرته أواني وملاعق وأكوابا خاصة, وحذرني من مجرد لمس أي شيء يستعملونه, واستمرت هذه الحالة عامين فقط ثم توفي عمي وزوجته واحدا تلو الآخر, وسبحانه علام الغيوب, وبعدهما توفي عمي الثاني وهو في السبعين من عمره دون أن يتزوج, فلقد كرس حياته للعبادة والتصوف.
وبدأت الأطماع تحيق بصدر أبناء عمي, ونحن نعيش تحت سقف واحد, حيث كان ابوهم موظفا عاديا, ولم يكن له أي دخل آخر, في حين ترك أبي أرضا زراعية ذات مساحة شاسعة, وأموالا بالبنك, وتحملت متاعبهم حتي حصلت علي الثانوية العامة, ثم انتقلت الي القاهرة, واستأجرت شقة يملكها قريب لنا, وخضعت لعملية قلب مفتوح في احد المستشفيات الكبري, ثم التحقت بمعهد عال, وتنفست الصعداء لأول مرة في حياتي, ويبدو أن أولاد عمي استكثروا علي ما أنا فيه, فوجدتهم يتصلون بي ويخبرونني بأن لديهم قطعة أرض يريدون بيعها, وانهم يعرضونها علي كي لا تذهب إلي الغريب, واشتريتها منهم, ثم تبين لي انها تقع ضمن أرض أبي التي آلت إلي بالميراث, فأحسست باحتقان داخلي علي ما فعلوه بي, ورفعت دعوي عليهم أمام المحكمة, وتركت الأمر للقضاء.
ومرت سنوات الدراسة سريعا, ولفتت نظري فتاة في الحي الذي أسكن فيه بتدينها البادي علي ملامحها, وأحسست براحة نفسية غريبة لمجرد النظر الي وجهها الهادئ, ولما لم تكن لي تجارب عاطفية سابقة, فقد صارت هي كل عالمي, وحدثت أحد جيراننا عن رغبتي في الارتباط بها فأعطاني رقم هاتف والدها, واتصلت به وسألني عن العمل الذي امتهنه فأبلغته بأنني أنهيت دراستي وسوف أبدأ البحث عن عمل, وقد اشتريت شقة تمليك في حدائق الأهرام, فرد علي بأنه ليس لديه بنات للزواج رافضا مقابلتي, فحاولت لقاء شقيقها للتفاهم معه, فلم أجد لديه قبولا, أو قل انه لا يستطيع التدخل في هذا الموضوع.
وبعد شهر تقريبا وجدتها تتصل بي, وتبدي موافقتها علي لقائي في مكان عام, فسعدت بعرضها, وتكررت مقابلاتنا تحت سمع وبصر والدتها وأخوتها, واستقر بي الحال في عمل خاص يقع مقره بجوار المنزل الذي أسكن فيه, وواصلت هي دراستها في كليتها بنجاح.. وأعدت تكرار رغبتي في الارتباط بها علي والدها, فإذا به يثور ضدي ثورة عارمة, ويرد بحدة بأنه سبق له رفض هذا الارتباط, وان علي ألا اتحدث معه مرة أخري, فبكيت بمرارة من موقفه, ومع ذلك لم يلن له جانب.
وتوترت علاقتي بها, ثم انقطعت اتصالاتنا تماما, وبعد أسابيع وجدتني أمسك بالتليفون واتصل بها, لكنها لم ترد علي فبعثت اليها برسائل عديدة أبثها فيها حبي وأشواقي وأؤكد لها انني لا أريد أي فتاة سواها, وهنا ردت علي والدتها بأن والدها أصيب بجلطة في المخ, وأن ابنتها تقدم لها عريس وانه قد يوافق عليه بعد أن يتجاوز محنته المرضية.
ونزل علي الخبر كالصاعقة, وأحسست أن فتاتي سوف تضيع مني, فأصبت بهبوط حاد في الدورة الدموية, وشخص الطبيب حالتي بأنها مرض نفسي, ولما علمت فتاتي بما حدث لي, قالت بعبارة صريحة انها لن تخسر أباها من أجلي كما فعلت احدي اخواتها عندما أصرت علي الزواج من الشاب الذي بثها حبه, ثم ندمت علي انها لم تأخذ بنصيحة أبيها.
لقد أسرتني فتاتي بحبها ثم إذ بها الآن تتنصل مني لمجرد أن أباها يتحفظ علي ارتباطها بي بلا ذنب ارتكبته في حقهم, وفي الحقيقة فإنني لا أتصور الحياة بدونها, فهي العنصر النسائي الوحيد في حياتي إذ لم أعش حنان الأم أو الأخت أو العمة أو الخالة, بل قل انني لم أذق حنانا من أي نوع.
وما يزيدني غما علي غمي هو أنها لاتمانع في الارتباط بهذا الشاب, وهو من نفس عائلتها, وفي مثل سنها, ويعمل بإحدي الشركات الكبري ويسكن في منطقة راقية, يعني هو عريس جاهز ولا يعيبه شيء, أما الحب فتري انه سيأتي بعد الزواج, والغريب ايضا انني وجدتها تقارن ظروفي وظروفه, ثم أباحت لي بموقفها النهائي في ثنايا حديثنا بأن انتبه الي مستقبلي. وانني سوف أجد الانسانة المناسبة لي.
لقد استثمرت فتاتي الفرصة الثمينة التي لاحت لها, وهذا يدفعني الي ان أسألك: هل أصبح الحب عملة نادرة في هذا الزمان, وما الذي ينقضي حتي يوافق علي والدها, وهل لديك تفسير لما قاله عني من انني شاب محترم ولكني لا أصلح زوجا لابنته, وان من اختاره لها هو الذي ستتزوجه؟, وبماذا تنصحني لكي اتجاوز محنتي؟
<< ولكاتب هذه الرسالة أقول:
أزمتك الحقيقية أنك أوقفت حياتك علي الفتاة التي تعلقت بها, وأحببتها من طرف واحد دون أن تبادلك شعورك بالقدر نفسه, فلقد وزنت علاقتها بك بميزان العقل, ووجدت في الشاب الذي تقدم إليها طالبا يدها فتي أحلامها, بما يملكه من مؤهلات مادية وعلمية, وصلة قرابة من منطلق أن الحب يأتي بعد الزواج, وقد أبلغتك أنها تعلمت الدرس من أختها التي اندفعت وراء مشاعرها, وارتبطت بفتاها علي غير إرادة أبيها, فجاءته تجر أذيال الفشل ولذلك لن تصنع صنيعها, وتمنت لك النجاح في الحياة, وأن تجد من تحبك وترعاك, فماذا تنتظر أكثر من ذلك؟
إن مسيرتك منذ وفاة والديك وأنت في سن الصبا تؤكد أن مصاعب الحياة جعلت منك رجلا قويا قادرا علي مواجهة الشدائد, وبالفعل تغلبت علي عقبات كثيرة واجهتك, وتصديت لأطماع أولاد عمك, ولم يعد بينك وبين النجاح سوي الانتظار لفترة لن تطول كما توحي كل الشواهد, وتحضرني هنا عبارة ونستون تشرشل حيث ترجم انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية بقوله: الفرق بين النجاح والفشل قليل من الصبر, فلا تقلق, والاستقرار قاب قوسين أو أدني منك, بعد أن قطعت خطوات واسعة علي طريق المستقبل, وسوف تصادف من هي جديرة بك, وبحبك وإخلاصك.
أما الفتاة التي وقعت أسيرا في حبها, فدعها وشأنها, ولا تغالي في معرفة الأسباب التي دفعت أباها لتفضيل الشاب الآخر عليك, فلقد فسرت ذلك بنفسك بأنه مناسب لها من كل الوجوه, علاوة علي أنه من عائلتها نفسها, أي أنه يمت إليها بصلة قرابة, ومادامت هي قد طالبتك بالالتفات إلي مستقبلك, فقد أصبح عليك أن تغير وجهتك إلي من تبادلك حبا بحب, ولا تتخلي عنك مهما اشتدت الأنواء والأعاصير.
وبصراحة فإنني لا أري سببا لضيقك وقلقك, فالإنسان لا يقلق إلا لنقص فيه, أو ضعف إيمانه, وعدم تسليمه بالقضاء والقدر, فكن دائما في معية الله واعتصم به, ولا تنسي فضله عليك حتي وصلت إلي ما أنت عليه, وبمرور الأيام سوف تكون هذه التجربة مجرد ذكري, فلا تلتفت إلي الماضي, وعليك أن تتدبر أمرك, وتوقن أنها لم تعد تناسبك, فحتي إن عادت إليك لسبب أو لآخر, فسوف تظل في قلبك غصة منها, ولن تنسي أنها فضلت غيرك عليك ذات يوم, فدع أحزانك وتخلي عن هذا الهدف الباهت الذي فقد بريقه بما تكشف عن موقفها الحقيقي منك, وإياك وهذه النظرة السوداوية إلي الحياة, فلو أنك تمعنت فيما حولك لعرفت أنك بقليل من الإدراك السليم, والتسامح والمرح سوف تريح نفسك, علي حد تعبير سومرت موم, فاهدأ بالا, وتطلع إلي المستقبل بعين جديدة غير تلك العين اليائسة, وفقك الله, وسدد خطاك.