بريد الجمعة يكتبه:احمدالبري
الحلم المستحيل!
استهل رسالتي اليك بالآية الكريمة رب اشرح لي صدري. ويسر لي أمري. واحلل عقدة من لساني. يفقهوا قولي فلقد فاض بي الكيل وأشعر انني وصلت الي طريق مسدود.
لا أمل لي في الخروج منه.. فأنا فتاة اقترب من سن الاربعين أعيش وإخوتي في شقة علي أطراف إحدي مدن الصعيد, وقد نشأنا في قرية صغيرة نائية, ثم هجرتها أسرتي منذ سنوات بعيدة واستقرت في تلك المدينة, ويعرفنا كل من حولنا بعد أن اشتهر بيتنا بمشكلاته الغريبة, إذ لم يتزوج أحد من إخوتي ماعدا شقيقتي الكبري التي استمرت زيجتها عشر سنوات أنجبت خلالها بنتا واحدة ثم انفصلت عن زوجها بسبب خلافات مع أهله وهي حاصلة علي دبلوم المدارس الصناعية لكنها لم تلتحق بأي وظيفة لعدم وجود واسطة لها فكل شيء يتم عندنا بالمحسوبية, ونحن مقطوعون من شجرة وليس لدينا من يساعدنا.
وأخي الأكبر تعدي سن الأربعين وحاصل علي دراسات عليا في القانون, أما أخي الذي يليه فحاصل علي دبلوم فوق المتوسط من أحد المعاهد, ويعمل موظفا بإحدي المدارس, وأخي الثالث نال شهادة متوسطة ولا يستقر في أي عمل بسبب تعنت أصحاب الأعمال, أما أصغر إخوتي فحصل علي بكالوريوس التعليم الصناعي وبلغ عمره ثلاثين عاما, ولم يحصل علي أي فرصة عمل حتي الآن.
ولقد كنا نستغرب طلب بعض ذوي النفوذ أربعين أو خمسين ألف جنيه لإلحاق من يريد العمل بوظيفة معينة, فإذا بنا نجد ذلك حقيقة ماثلة أمامنا ولكن العين بصيرة واليد قصيرة كما يقولون.. وتأكدنا أن الوظائف مقصورة علي الأغنياء وأن الحديث عن التفوق والنبوغ والجد والاجتهاد لغو لا جدوي منه.. وحتي بعد ثورة25 يناير التي فرحنا بها, لم يختلف الأمر إذ لم نجن منها سوي الخوف والهلع, ووجع القلب والصداع وارتفاع الأسعار... وذهبت آمالنا فيها أدراج الرياح!
أما أنا فحاصلة علي ليسانس آداب قسم اجتماع, وأعمل في وظيفة بسيطة بالحكم المحلي وأتقاضي منها مرتبا لا يتعدي خمسمائة جنيه في الوقت الذي تحصل فيه من يصغرني بخمسة عشر عاما علي أضعاف ما أحصل عليه, وأتلفت حولي فأجد أن بنات من هن في مثل سني تزوجن وأنجبن وأنا مازلت أبحث عن ابن الحلال.. صحيح انه لايختلف اثنان علي أخلاقي وسمعتي, وملابسي المحتشمة وجمالي الهادئ لكن اختيارات الشباب تعتمد كلها علي المصلحة المادية, ونحن كما تري بسطاء في كل شيء.
لقد طرق بابي كثيرون من العرسان, ولكن ما أن يتعرف الواحد منهم علي ظروفنا الأسرية حتي يخرج بلا عودة وظللنا علي هذه الحال سنوات طويلة عانت أمي خلالها أمراضا عديدة واستهلكت مبالغ كبيرة في العلاج إلي أن تغمدها الله برحمته, وكان أخي الأصغر مرتبطا بها ارتباطا وثيقا فلما رحلت عن الحياة أصيب بصدمة عصبية ولم يعد يخرج من المنزل وفقد الأمل في كل شيء ولم يفلح شقيقاي الكبيران في الزواج هما الآخران برغم انهما خطبا أكثر من مرة حيث لم يجدا من تقدر ظروفهما, وهنا أشير إلي أن دائرة معارفنا تنقسم إلي فريقين, الأول فريق الأغنياء الذين فتح الله عليهم من نعمه, وقد فرضوا علينا حصارا, ورفضوا أن يناسبونا وقطعوا كل صلة لهم بنا حتي أن أمي عندما دخلت المستشفي لم يسأل أحد عنها, وعندما مررنا بظروف قاسية قصدناهم, فلم يقفوا إلي جانبنا, فهم لا يعرفون إلا الأغنياء مثلهم ولم يفكروا في مساعدة أحدنا في العمل أو الزواج...
والفريق الثاني هو فريق الفقراء ونحن منهم فلا حول لهم ولا قوة ومع ذلك تزوجوا جميعا, وبقينا وحدنا الاستثناء في هذه المسألة ولقد نسيت أن أقول لك إن من أسباب جفاء أقاربنا لنا هو أن عائلة أبي كرهت أمي منذ زواجهما لأنها كانت مصابة بمرض مزمن ولم تبلغه به ولم يكتشفه الا بعد ارتباطه بها, فأرادوا تطليقها منه والزواج بواحدة من بناتهم لكنه لم يرضخ لرغبتهم.. وعلي الجانب الآخر كرهت عائلة أمي أبي وأولاده لأنه فقير.
وقد اضطروا الي تزويجه ابنتهم بعد أن تركها خطيبها الأول لمرضها.. يعني الطرفان يكرهان بعضهما, ولكل طرف حجته وكانت النتيجة هي القطيعة الي صرنا ندور في فلكها.. بعد أن وجدنا أنفسنا بلا أقارب ودفعنا الثمن وكان جدي لأمي من الأثرياء لكن أشقاءها رفضوا إعطاءها حقها من الميراث وبهدلوها وحرموها من دخول بيت العائلة وقاطعوها حتي ماتت بحسرتها وقد سمعتها وهي علي فراش الموت تقول: حسبنا الله ونعم الوكيل, حيث كان ميراثها كفيلا بمساعدتنا ومع ذلك لم تفكر في اللجوء الي المحاكم للحصول علي حقها لأن أخوالي كان لديهم من الحيل والدهاء ما يجعل الأحكام تصدر لمصلحتهم, وهكذا ضاع حقنا.
أما أبي فلقد انتهي دوره منذ أن أنجبنا, وقد حدثت تطورات متلاحقة أثرت عليه كثيرا حتي صار شخصا آخر. حيث شارك في حرب اليمن ومات فيها أفراد كتيبته بالكامل أمام عينيه, ولم ينج أحد غيره, ثم شارك في نكسة1967 وبعدها في حرب الاستنزاف التي أصيب خلالها بجرح قطعي في رأسه أحدث خللا في مخه وأصيب بطلق ناري في ساقه, وكانت النتيجة تعرضه لمتاعب شديدة وتلقي علاجا نفسيا, وأصبح بالنسبة لنا في تعداد الأموات ولم يؤد دوره كأب وعاش لنفسه فقط يتناول الطعام وينجب الأطفال ولا شيء غير ذلك, وهو الآن يعاني أمراضا مزمنة كثيرة أبرزها الكبد والضغط والكلي وأصيب بورم في البروستاتا وسلس في البول وبلغ به اليأس مداه وسيطرت الكآبة علينا, فما ننام فيه نصحو عليه, ولا نري لعذابنا آخر, ووصل الأمر إلي حد تفكير أخي الأصغر في الانتحار, لقد يئسنا من الدنيا وما فيها ولا أري أملا في الخلاص مما نحن فيه بعد أن صار استقرارنا حلما مستحيلا, فهل أجد لديك ما تشير به علينا؟
ولكاتبة هذه الرسالة أقول:
بالرغم من نبرة الأسي التي تحملها كلماتك, فإنني أري بداخلك قوة ساكنة بإمكانها أن تقهر المستحيل. وتتغلب علي المصاعب والآلام, وهي قوة الإيمان بقدرتك علي تخطي الحواجز التي تعرقلك عن مواصلة مشوارك في الحياة, وهذه القوة قادرة علي إزالة الأوجاع من قلبك, وتحويل السالب في خطواتك إلي موجب.. صحيح أننا لا نستطيع أن ننزع كل آثار الحزن من داخلنا, لكن الحقيقة التي لا مراء فيها أن الله سبحانه وتعالي خلق الحياة. وفيها الأفراح والأحزان, لذلك فإنها تحمل بين جوانبها التعب والمشقة, إذ يقول الله تعالي لقد خلقنا الإنسان في كبد, فخففي من حزنك وهمك, فالماضي ولي وانقضي والمستقبل لم يأت بعد.. أما الحاضر فعليك أن تعيشيه بحلوه ومره, وأن تضعي الله نصب عينيك فيهدأ بالك وتطمئن نفسك, واني أسألك: كيف يعيش من يحمل هموم أمس واليوم وغدا؟ وكيف يرتاح من يفكر كل لحظة في متاعبه وآلامه ويجعل نفسه أسيرا لها؟
إن القضاء والقدر أمر مفروغ منه, وحزننا علي ما أصابنا لا يقدم ولا يؤخر في الواقع شيئا, فلا تنفقي أيامك في الحزن ولا تبذري لياليك في الألم, وتأكدي أن الفرج قادم بإذن الله.. فقط عليك أن تحسني الظن بالله. فإن مع العسر يسرا. وفي الحديث الشريف عن رسول الله صلي الله عليه وسلم أنه قال أعلم أن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب وأجدني هنا أردد قول الشاعر:
دع المقادير تجـــري في أعنتهـا
ولا تنامن إلا خـــالي البـــــــال
ما بين غمضة عين وانتباهتها
يغير الله من حال إلي حال
نعم يا سيدتي. فالحال سوف تتغير بكل تأكيد, فلا تحزني ولا تدعي نظرة الآخرين إلي بيتكم بمشكلاته التي تصفينها بالغريبة لمجرد أنك لم تتزوجي بعد أو أن أحد إخوتك أو أباك مريض.. أقول: لا تدعي هذه النظرة الخاطئة تؤثر فيك, وعليك أن تهتمي بشخصيتك التي هي عنوان حقيقتك, لكي تفرضي نفسك علي كل من حولك, ولتستمتعي بكل دقيقة في الحياة. فتعيشينها كاملة بنفس راضية, وعليك بذل كل ما في وسعك للخروج من الدائرة الضيقة التي تضعين نفسك فيها بتكوين صداقات في محيط العمل. والانخراط في الأعمال الخيرية خلال وقت الفراغ, وعندئذ سوف تندهشين بكم الأشياء التي لديك القدرة علي عملها. فسر الاحساس بالتعاسة هو أن الوقت لديك متوافر للتساؤل: هل أنت سعيدة أم لا؟.... علي حد تعبير برنارد شو, فشغل الوقت فيما هو مفيد عامل مهم في تحسين الناحية النفسية, كما يدفع الإنسان إلي مزيد من العمل والطموح.
أما عن أخوالك فإني أسألك: هل تظنين أنهم بحرمانهم والدتك من ميراثها الشرعي غائبون عن المولي عز وجل؟ لا والله.. فلقد بخسوها أشياءها طمعا في مال زائل وسعادة مؤقتة. ونسوا الانذار الالهي لكل من يصنع هذا الصنيع, حيث قال عز وجل من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها, وهم فيها لا يبخسون.. أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون.
فإذا نظرت أنت وإخوتك بمقياس الايمان, ووضعتم كل شيء في مكانه الصحيح, فإن الاستقرار سيكون حليفكم. وسيتحول الحلم المستحيل إلي واقع تعيشونه وتنعمون به. فقط عليكم توسيع دائرة معارفكم, واليقين بأن الحل قريب, وأن تعويض ما فات يكون بقدر العزيمة والاصرار.. وأمامكم متسع لتحقيق أحلامكم في العمل والزواج والاستقرار, فانتظروا فرج الله وهو وحده المستعان.[b]