نحن الآن واقفون على مقربة من جيش عظيم، جيش يتكون من إنس وجن ووحوش وطيور، إنه جيش سليمان عليه السلام، أعظم ملوك الأرض، حيث استجاب له رب العزة جل جلاله حين سأله: (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي) فسخر الله له أمورا لم يسخرها لأحد من قبله ولا من بعده. فصار سليمان بن داود عليهما السلام نبيا لبني إسرائيل وملكا عليهم، ليكون عهده العصر الذهبي لبني إسرائيل.
نرى سليمان عليه السلام يتفقد الجيش بعيون القائد العارف بكل صغيرة وكبيرة في جيشه. وفجأة، يغضب سليمان عليه السلام. غَضِبَ غَضَباً شديدا، لقد أحس باختفاء "الهدهد"، أحس باختفاء هذا الطير الصغير من بين هذه الآلاف من الأصناف المختلفة من المخلوقات.
أحس باختفائه، لأنه القائد الحكيم الذي يعرف كيف ينظم جيشه، ويعرف كيف يوجههم ويراقبهم. أما غضبه، فكان لخروج هذا الجندي من غير إذن، ولا تهزم الجيوش إلا عند مخالفتهم أوامر قائدهم، أو عندما يتصرفون انطلاقا من أهوائهم. وعزم سليمان عليه السلام على معاقبة هذا الجندي العاصي عقابا شديدا قد يصل إلى الإعدام ليكون عبرة لغيره، فيلتزم الجنود بأوامر قائدهم، ويظل الجيش متماسكا. أو أن يأتي هذا الجندي بعذر قوي ينجيه من هذه العقوبة.
ولم يطل انتظار سليمان عليه السلام. فجاء الهدهد ووقف على مسافة غير بعيدة عنه وقال: علمت بأمر لا تعلمه أنت، وجئت بأخبار أكيدة من مملكة سبأ -انظر كيف يخاطب هذا الهدهد أعظم ملك في الأرض، بلا إحساس بالذل أو المهانة، وهذه هي الروح التي يجب أن يتحلى بها القائد في تعامله من أتباعه، يجب أن يزرع فيهم احترامه وحبه، لكن من غير خوف وذل ومهانة- واستمر الهدهد في حديث قائلا: إني وجدت امرأة تحكمهم وأعطاها الله قوة وملكا عظيمين ...ّر لها أشياء كثيرة ولها كرسي ضخم جدا تجلس عليه للحكم مرصّع بالجواهر وهم يعبدون الشمس فقد أضلهم الشيطان وزين لهم السجود للشمس وترك الله سبحانه وتعالى.
لنتوقف هنا قليلا.. ما الذي دفع الهدهد للسفر من بلاد الشام لليمن؟! ما الأمر المميز في مملكة سبأ والذي جعل الهدهد يخرج من غير إذن سليمان مع أن عقوبة فعلته هذه هي الموت؟! ما الذي جعل الهدهد يتكلم بكل ثقة مع سليمان عن مملكة سبأ؟!
أما ما دفع الهدهد لقطع هذه المسافة الطويلة جدا من فلسطين لليمن فهو: روح المبادرة وإيجاد الدور المناسب له. لم يكتف الهدهد بأن يكون جنديا عاديا في جيش سليمان، خصوصا وأن الجيش يضم الجن والشياطين والإنس والوحوش، فما هو الهدهد بجانب هذه المخلوقات!! إن قوته لا تساوي جزء من مئة جزء من قوة أحدهم. لذا، دفعته روح "المبادرة" للبحث عن "دور" مهم يناسبه ويكون قادرا على تنفيذه على أتم وجه.
نأتي للأمر المميز في مملكة سبأ.. إن جنود سليمان عليه السلام على علم تام بهدف سليمان في الأرض، إن هدفه نشر دين الله، وإعلاء كلمته، وتحطيم كل ما يُعْبَد سواه. هذا "الوضوح في الهدف" سَهَّـل على الجنود تحديد الأدوار التي تناسبهم. فالجن على سبيل المثال يصنعون الأسلحة والمعدات اللازمة لقتال أعداء الله، والإنس يتولون مهمة إخضاع الأعداء بالقوة، أما الهدهد فرأى أن الدور الذي يناسبه هو: البحث عن أعداء الله وإعلام سليمان بهم.
وهذا الوضوح في الهدف هو أيضا ما جعل الهدهد يتكلم بثقة مع سليمان غير مكترث لعقاب أو قتل، فهو يعلم أن ما قام به سيساعد سليمان على تحقيق هدفه وبالتالي فلن يعاقبه.
لنعد لنبينا الكريم سليمان عليه السلام، ولننظر ماذا فعل. لقد تصرف سليمان عليه السلام بحكمته المعروفه، وهي حكمة القائد الذي استحق أن يهبه الله ملكا ليس لأحد من قبله أو بعده.
لم يتسرع سليمان بتجهيز الجيش، وهو القادر على سحق مملكة سبأ برمشة عين. وإنما أراد أولا التأكد صدق الأنباء التي نقلها إليه هذا الجندي. فأمره بنقل كتابه لملكتهم، وأن يرجع ليخبره بما حدث.
وتستمر أحداث القصة، التي انتهت بإسلام ملكة سبأ من غير قتال، وتبعها قومها في ذلك.
أحب الإشارة هنا إلى عدة أمور، منها ما يتعلق بسليمان عليه السلام، ومنها ما يتعلق بالهدهد.
أما ما يتعلق بسليمان عليه السلام فهو:
علم سليمان عليه السلام بكل صغيرة وكبيرة في جيشه، ودقة ترتيبه وتقسيمه له. ويتضح ذلك من اكتشافه غياب الهدهد مع أنه طير صغير. تفقد الجيش بشكل دقيق للتأكد من جاهزيته. ويتضح ذلك من مروره على الجيش بعد جمعهم لمعرفة الحاضر من الغائب. حرص سليمان عليه السلام بتقيد جيشه بأوامره، وأهمية استئذان القائد قبل القيام بأي أمر. ويتضح ذلك من غضب سليمان عليه السلام لغياب الهدهد دون استئذان أو أمر. سماع المذنب قبل تنفيذ الحكم به. ويتضح ذلك من سماع سليمان عليه السلام حجة غياب الهدهد. التأكد من صحة الأخبار قبل اتخاذ أي قرار مصيري. ويتضح ذلك من إرسال رسالة مع الهدهد لملكة سبأ وأمره بأن يعود ويخبره بما حدث. وضوح هدف سليمان عليه السلام لدى أتباعه. ويتضح ذلك مما قام به الهدهد من بحث عن أناس لا يعبدون الله ليخبر سليمان عنهم. أما ما يتعلق بالهدهد فهو:
روح المبادرة. ويتضح ذلك من قيام الهدهد من نفسه بالبحث عن أناس لا يؤمنون بالله، دون أن يطلب منه أحد ذلك. البحث عن دور. ويتضح ذلك من اختيار الهدهد لنفسه دور الدليل والمستكشف لأنه أنسب له من أن يكون مقاتلا في جيش سليمان عليه السلام. أتتني هذه الخواطر وأنا أقرأ قصة نبي الله سليمان عليه السلام، فأحببت أن أشارككم بها. فإن أحسنت فمن الله، وإن أسأت فمن نفسي ومن الشيطان.[b]