كثيرة هي الأمراض النفسية الدفينة التي ترخي بظلالها الثقيلة على حياة الإنسان، وتُكبّله فتجعله أسير تصرّفاتها اللاإراديّة وعواقبها غير المحمودة. فمن الصعب أوّلاً الإقرار بالمعاناة من مرض نفسيّ، لما يشّكله الأمر من «آفة» إجتماعية، وما يولّده من نفور بين الناس. ذلك أنه في المجتمعات الشرقية، لايزال الشق النفسيّ غير متداول علناً وطيّ الكتمان لأنه مرتبط إرتباطاً وثيقاً بحالات «الجنون» على سبيل المثال. إذ نادراً ما يتقدّم شخص ليعترف على المفضوح، أو حتى ضمن نطاق العائلة، أنه يعاني من إضطرابات نفسية، مخافة ان يرفضه المقرّبون، أو حتى أن يُشفقوا عليه أو ربّما يتبرأوا منه. لكن بعض الحالات النفسية تكون عُصابية، ولا تمّت الى الجنون بصلة. إذ تكون نتيجة تربية صارمة، أو بسبب صدمة كبرى، أو إثر خلل وراثي. وخير دليل على ذلك الحالات القهرية التي قد تتحوّل من روتين أو عادة إلى مبالغة فهاجس. فالحالة القهريّة لا يمكن السيطرة عليها. ومع الوقت قد تتعارض مع نمط العيش السليم لتشكّل عائقاً.
الوسواس القهري والهاجس الملّح للتنظيف والترتيب من أبرز ما يُحيل يوميات شخص عادي إلى مُعضلة، إذ يتخبّط جاهداً لتنفيذها، رغماً عن إرادته لإسكات الهاجس الذي يتنابه. تشرح المرشدة النفسية جويل خوري أبعاد الحالة النفسية المعروفة بالوسواس القهريّ Obsessive Compulsive Disorder، بغية إطلاع الناس على هذا المرض الذي يهيمن على تفكير المرء. كما تتطرّق إلى أنواعه المتشعّبة مفصّلة أسبابها وسُبل علاجها. وتعطي المساعدة الإجتماعية غادة الحكيم نظرة خاطفة عن تعامل الأشخاص مع بعضهم إزاء المعاناة من هذه الحالة، وعن تصنيفهم للإنسان الذي لا حول له ولا قوّة تجاه هذه التصرفات اللا إرادية التي يقوم بها.
وسواس بإمتياز
صحيح أننا قد تربّينا منذ نعومة أظافرنا على واجبات معيّنة كالترتيب والنظافة والإستحمام... وهذه كلّها أمور تربويّة بديهيّة. لكن عندما تصبح العادة هاجساً ويفلت زمام الأمور من أيدي الإنسان الذي من شأنه أن يقوم بها، يتحوّل الروتين إلى حالة مبالغ بها، ليُضحي في مرحلة لاحقة وسواساً قهرياً لا يمكن ردع المرء عن القيام به مهما حاول من دون مساعدة مختصّة.
ولعلّ أبرز مقوّمات الإصابة بالوسواس القهري تتمثّل في عدم القدرة على لجم الذات عن القيام بأمور محدّدة.
تقول خوري: «يدخل إضطراب الوسواس القهريّ ضمن خانة مصنّفة على أنها حالة قلقيّة نفسية مرضيّة سلوكيّة، تتمثّل برغبة قويّة لدى المريض في السيطرة على المحيط الخارجيّ وفي الأفعال المتكررّة التي لا يرغب فيها لكنها تصدر رغماً عنه وإن حاول تلافيها. فيقوم المصاب بهذه الحالة الوسواسية بأفعال قهريّة وتراوده أفكار غير إعتياديّة، لا يستطيع الإمتناع عنها لأنها تخفّف قلقه. وهو يكون مدركاً أنّ هذه هي أفكاره وأفعاله وليست بهلوسات».
ومن الأمثلة الشائعة على الإصابة بهذه الحالة، تكرار غسل اليدين لعشرات المرّات يومياً خوفاً من إلتقاط الجراثيم، وتمضية فترة طويلة في القيام بهذه العمليّة، أو حتى المبالغة في الترتيب، فلا يسمح مثلاً بنقل قطعة من مكانها إلاّ على يد الشخص نفسه. ففي هذه الحالة، يتعرّض الإنسان لأفكار أو إندفاعات أو خيالات تأتيه رغماً عنه ولو كان يعرف أنها ليست مقبولة، وهذا النوع من الأعراض يتجلّى في الوسواس. وأمّا الأعراض الأخرى، فعبارة عن الأفعال القهرية أو الأعمال المتكرّرة أو الأفعال العقليّة مثل العدّ وإعادة الكلمات سرّاً وما شابه، إذ يجد الشخص نفسه مرغماً على ذلك إستجابة لأفكار وسواسية أو وفق تعليمات صارمة غير مرنة وأفعال نمطيّة.
1
2
3
[b][b]